فصل: تفسير الآية رقم (127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (127):

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}
سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء، وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {الله يُفْتِيكُمْ} أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم: {الله يُفْتِيكُمْ}. قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} معطوف على قوله: {الله يُفْتِيكُمْ} والمعنى: والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن. والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في اليتامى} [النساء: 3] ويجوز أن يكون قوله: {وما يتلى} معطوفاً على الضمير في قوله: {يُفْتِيكُمْ} الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور، ويجوز أن يكون مبتدأ، و{في الكتاب} خبره على أن المراد به: اللوح المحفوظ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا، ولم نذكره لضعفه.
قوله: {فِى يتامى النساء} على الوجه الأوّل والثاني صلة لقوله: {يتلى} وعلى الوجه الثالث بدل من قوله: {فِيهِنَّ}. {اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي: ما فرض لهنّ من الميراث وغيره {وَتَرْغَبُونَ} معطوف على قوله: {لاَ تُؤْتُونَهُنَّ} عطف جملة مثبتة على جملة منفية. وقيل: حال من فاعل {تُؤْتُونَهُنَّ}. وقوله: {أَن تَنكِحُوهُنَّ} يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن، أي: ترغبون في أن تنكحوهنّ لجمالهنّ، ويحتمل أن يكون التقدير، وترغبون عن أن تنكحوهنّ لعدم جمالهنّ. قوله: {والمستضعفين مِنَ الولدان} معطوف على يتامى النساء، أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11].
وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا من كان مستضعفاً من الولدان، كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور. قوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} معطوف على قوله: {فِى يتامى النساء} كالمستضعفين أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط، أي: العدل، ويجوز أن يكون في محل نصب، أي: ويأمركم أن تقوموا {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} في حقوق المذكورين: {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء} الآية، قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ في الكتاب} في أوّل السورة في الفرائض.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون لا يغزون، ولا يغنمون خيراً، ففرض الله لهنّ الميراث حقاً واجباً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها، فأنزل الله هذا.
وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلاً، فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن، وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما: ترغبون فيهنّ، وقال الآخر: ترغبون عنهن.

.تفسير الآيات (128- 130):

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}
{امرأة} مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده، أي: وإن خافت امرأة، وخافت بمعنى: توقعت ما تخاف من زوجها، وقيل معناه: تيقنت وهو خطأ. قال الزجاج: المعنى: {وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا} دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز، أو أيّ إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة، أو بعضها، أو بعض النفقة، أو بعض المهر. قوله: {أن يصالحا} هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون: {أن يصلحا} وقراءة الجمهور أولى؛ لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل: تصالح الرجلان، أو القوم، لا أصلح. وقوله: {صالحا} منصوب على أنه اسم مصدر، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف، أي: فيصلح حالهما صلحاً، وقيل: هو منصوب على المفعولية. وقوله: {بَيْنَهُمَا} ظرف للفعل، أو في محل نصب على الحال.
قوله: {والصلح خَيْرٌ} لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة، أو من الخصومة، وهذه جملة اعتراضية. قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} إخبار منه سبحانه بأن الشحّ في كل واحد منهما، بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة، وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج، فلا تترك له شيئاً منها. وشحّ الأنفس: بخلها بما يلزمها، أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} [الحشر: 9].
قوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: تحسنوا عشرة النساء، وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.
قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة، ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» ولما كانوا لا يستطيعون ذلك، ولو حرصوا عليه، وبالغوا فيه نهاهم عزّ وجلّ عن أن يميلوا كل الميل؛ لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم، وداخل تحت طاقتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمُعلقة التي ليست ذات زوج، ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقرّ على شيء، وفي قراءة أبيّ: {فتذروها كالمسجونة} قوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ} أي: ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء، والعدل بينهنّ {وَتَتَّقُواْ} كل الميل الذي نهيتم عنه: {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} لا يؤاخذكم بما فرط منكم.
قوله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا} أي: لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه: {يُغْنِ الله كُلاًّ} منهما: أي: يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيئ للرجل امرأة توافقه، وتقرّ بها عينه، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته، ويرزقهما {مّن سَعَتِهِ} رزقاً يغنيهما به عن الحاجة: {وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً} واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.
وقد أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: {وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة.
وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية.
وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كبراً، أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن: {وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} الآية.
وأخرج أبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية، فقال: هو رجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت، أو تكون دميمة، فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها، فلا بأس به، فإن رجعت سوّى بينهما.
وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} قال: هواه في الشيء يحرص عليه، وفي قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} قال: في الحبّ والجماع، وفي قوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} قال: لا هي أيمة ولا ذات زوج.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وإسناده صحيح.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وأهل السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة، وأحد شقيه ساقط» قال الترمذي: إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} قال: الجماع.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن الحسن قال: الحبّ.

.تفسير الآيات (131- 134):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
قوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه، وشمول قدرته {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب للجنس {وإياكم} عطف على الموصول {أَنِ اتقوا الله} أي: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وهو في موضع نصب بقوله: {وَصَّيْنَا} أو منصوب بنزع الخافض. قال الأخفش: أي: بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول. قوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا في * السموات وَمَا فِي الأرض} معطوف على قوله: {أَنِ اتقوا} أي: وصيناهم وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه، وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي: يفنكم {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي: بقوم آخرين غيركم، وهو كقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} [محمد: 38] {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} وهو من يطلب بعمله شيئاً من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} فما باله يقتصر على أدنى الثوابين، وأحقر الأجرين، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه، وهو ثواب الدنيا والآخرة، فيحرزهما جميعاً، ويفوز بهما، وظاهر الآية العموم.
وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} يسمع ما يقولونه، ويبصر ما يفعلونه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَكَانَ الله غَنِيّاً} عن خلقه {حَمِيداً} قال: مستحمداً إليهم.
وأخرجا أيضاً عن علي مثله.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: {وكفى بالله وَكِيلاً} قال: حفيظاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ} قال قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم.

.تفسير الآيات (135- 136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
قوله: {قَوَّامِينَ} صيغة مبالغة، أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير. وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب برّهما، وكونهما أحبّ الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين؛ لأنهم مظنة المودّة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم، فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه.
وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه، وهو بعيد. وقوله: {شُهَدَاء للَّهِ} خبر بعد خبر لكان، أو حال، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث.
وقال ابن عطية: الحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. وقوله: {لِلَّهِ} أي: لمرضاته وثوابه. وقوله: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية؛ وقيل معنى: {شُهَدَاء للَّهِ} بالوحدانية، فيتعلق قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} بقوّامين، والأوّل أولى.
قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} اسم كان مقدّر، أي: إن يكن المشهود عليه غنياً، فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه، أو استدفاعاً لضره، فيترك الشهادة عليه، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له، وإشفاقاً عليه، فيترك الشهادة عليه، وإنما قال: {فالله أولى بِهِمَا} ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد؛ لأن المعنى: فالله أولى بكل واحد منهما.
وقال الأخفش: تكون {أو} بمعنى الواو؛ وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس} [النساء: 12].
وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبيّ: {فالله أولى بهم}. وقرأ ابن مسعود: {إن يكن غنيّ أو فقير} على أن كان تامة: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله: {أَن تَعْدِلُواْ} في موضع نصب، وهو إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدول كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق.
قوله: {وَإِن تَلْوُواْ} من الليّ، يقال لويت فلاناً حقه: إذا دفعته عنه. والمراد ليّ الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر، والكوفيون {وإن تلوا} من الولاية، أي: وإن تلوا الشهادة، وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق.
وقد قيل: إن هذه القراءة تفيد معنيين: الولاية، والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا.
قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا، فاستثقلت الضمة على الواو وبعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين. وذكر الزجاج نحوه. قوله: {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي: عن تأدية الشهادة من الأصل {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: بما تعملون من الليّ والإعراض، أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة، كما تجب عليه، وقد روى أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين، أو يلوى عن الكلام معه وقيل: هي خاصة بالشهود. قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: اثبتوا على إيمانكم، وداوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ} هو القرآن، واللام للعهد {والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} هو كل كتاب، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر {نزل} و{أنزل} بالضم. وقرأ الباقون بالفتح فيهما. وقيل إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل نزلت في المشركين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان. قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر} أي: بشيء من ذلك {فَقَدْ ضَلَّ} عن القصد {ضلالا بَعِيداً} وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة، فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ} الآية: قال، أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، لا يحابون غنياً لغناه، ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وفي قوله: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} فتذروا الحق فتجوروا {وَإِن تَلْوُواْ} يعني بألسنتكم بالشهادة {أَوْ تُعْرِضُواْ} عنها.
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال: الرجلان يجلسان عند القاضي، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أوّل سورة نزلت، ثم أردفها سورة النساء، قال: فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه، فيلوى بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر، فيقضي حين يوسر، فنزلت: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} الآية.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها.
والإعراض: الترك.
وأخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد، وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله»، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله} الآية. وينبغي النظر في صحة هذا، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع.
وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك في هذه الآية قال: يعني بذلك: أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم واتبعه، ومنهم من كفر.